خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 10 من رجب 1446 هـ - الموافق 10 / 1 / 2025م
عِبَرٌ وَفَوَائِدُ مِنْ قِصَّةِ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مَلِيءٌ بِالْقَصَصِ وَالْأَخْبَارِ، وَزَاخِرٌ بِالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْرَارِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَوَسِيلَةٌ لِلِاتِّعَاظِ وَالتَّدَبُّرِ؛ فَفِي الْقَصَصِ عِبَرٌ وَفَوَائِدُ، وَفِي سَرْدِهَا مَنَافِعُ وَعَوَائِدُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ]فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ( [الأعراف:176]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ]لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَة لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ( [يوسف:111]. وَلَقَدْ زَخَرَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ بِالْقَصَصِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ وَتَأْخُذُ بِالْأَلْبَابِ، وَفِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْأَحْكَامِ وَالْفَوَائِدِ كَمَا فِي قَصَصِ الْكِتَابِ؛ رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ. فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ، مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا. وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ». قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمَصُّهَا، قَالَ: «وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: حَلْقَى [أَصَابَهُ اللهُ بِوَجَعٍ فِي حَلْقِهِ] مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا».
أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ:
تِلْكُمْ قِصَّةُ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ، فِيهَا أَحْكَامٌ وَعِبَـرٌ وَفَوَائِدُ، نَتَلَمَّسُهَا فِيهَا، وَنَقِفُ عَلَيْهَا ، فَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا» مَشْرُوعِيَّةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَجَوَازُ الِانْقِطَاعِ لَهَا، إِذَا فَرَغَ الْإِنْسَانُ مِنْ وَاجِبَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب ( [الشرح: 7 - 8]. وَمَشْرُوعِيَّةُ الْعُزْلَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنْ كَانَ فِي مُخَالَطَةِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فِتْنَةٌ فِي دِينِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ التَّخَلُّصَ إِلَّا بِالْعُزْلَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ]. وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَثَّرُ بِفَسَادِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ فِي مُخَالَطَتِهِ لَهُمْ تَأْثِيرٌ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِصْلَاحِ الْفَسَادِ؛ كَانَتْ مُخَالَطَتُهُ أَوْلَى مِنْ عُزْلَتِهِ، بَلْ رُبَّمَا تَجِبُ الْمُخَالَطَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَنْفَعُ لِلنَّاسِ وَأَجْدَى لِلدِّينِ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ].
وَمِنَ الْفَوَائِدِ: جَوَازُ قَطْعِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ لِإِجَابَةِ نِدَاءِ الْوَالِدَيْنِ إِذَا عَلِمَ تَأَذِّيَ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّرْكِ. أَمَّا الْفَرِيضَةُ فَلَا تُقْطَعُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ رَأَيْتَ شَخْصًا تَخْشَى أَنْ يَقَعَ فِي بِئْرٍ أَوْ فِي بَحْرٍ أَوْ فِي نَارٍ أَوْ نَحْوِهَا.
وَمِنْهَا أَيْضًا: أَنَّ دُعَاءَ الْوَالِدِ إِذَا كَانَ بِحَقٍّ؛ فَإِنَّهُ حَرِيٌّ بِالْإِجَابَةِ؛ وَلِهَذَا يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَحْتَرِسَ غَايَةَ الِاحْتِرَاسِ مِنْ دُعَاءِ وَالِدَيْهِ عَلَيْهِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ]. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ».
عِبَادَ اللهِ: وَفِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ: أَنَّ صَاحِبَ الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ لَا تَضُرُّهُ الْفِتَنُ؛ فَقَدْ ذَهَبَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى جُرَيْجٍ لِتَفْتِنَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ وَثَبَاتِ الْإِيمَانِ، وَرُسُوخِهِ فِي الْجَنَانِ وَالْأَرْكَانِ؛ قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا [أَيْ: مُتَغَيِّرًا كَالْإِنَاءِ الْمَائِلِ] لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: (صَاحِبُ الْمَعْرُوفِ لَا يَقَعُ، فَإِنْ وَقَعَ وَجَدَ مُتَّكَأً).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ؛ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.
أَيُّهَا الـْمُسْلِمُونَ:
وَمِنَ الْعِبَرِ وَالْفَوَائِدِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَعَرَّفَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الرَّخَاءِ؛ عَرَفَهُ اللَّهُ فِي الشِّدَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي الشِّدَّةِ الْعَظِيمَةِ، أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ الْخُطُوبِ الْجَسِيمَةِ، وَاللَّهُ يَجْعَلُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ بَلَاءٍ عَافِيَةً؛ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ] وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجا * وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ( [الطلاق:2-3] وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ تَهْذِيبًا لَهُمْ وَزِيَادَةً فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِنَ الْحَسَنَاتِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ... وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ:
وَفِي تِلْكَ الْقِصَّةِ أَيْضًا: إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ؛ إِذْ إِنَّ جُرَيْجًا اسْتَنْطَقَ الْمَوْلُودَ فَنَطَقَ، مَعَ كَوْنِ الْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ، وَلَوْلَا صِحَّةُ رَجَائِهِ وَصِدْقُ تَوَكُّلِهِ بِنُطْقِهِ مَا اسْتَنْطَقَهُ. وَالْإِيمَانُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَعَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ]أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ * ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ( [يونس:62-63]، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ؛ هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِيٌّ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ بَيْنَ مَنْ أَنْكَرُوا وُقُوعَهَا، -فَخَالَفُوا النُّصُوصَ وَكَابَرُوا الْوَاقِعَ- وَبَيْنَ مَنْ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِهَا، فَأَثْبَتُوا كَرَامَاتٍ لِلْفَجَرَةِ وَالْفُسَّاقِ وَمَنْ لَيْسُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَاعْتَمَدُوا فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ عَلَى الْحِكَايَاتِ الْمَكْذُوبَةِ، وَالْمَنَامَاتِ الْمَوْهُومَةِ، وَالْخَوَارِقِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمَزْعُومَةِ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَوَسَّطُوا فِي مَوْضُوعِ الْكَرَامَاتِ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَأَثْبَتُوا مِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَلَمْ يَغْلُوا فِي أَصْحَابِهَا، وَنَفَوْا مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنَ الدَّجَلِ وَالشَّعْوَذَةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمينَ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ،، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْـمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْـمُشْرِكِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمَاِ بِحِفْظِكَ، وَأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْإِيمَانِ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً؛ دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْـدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَـمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة